ذكرى رجل شجاع واجه العواصف وحيدا ..صنع الله إبراهيم أيقونة أدبية لا تنسى

فاتن بن حسن- الأيقونة الثقافية

قال الحكيم المالي امادو هامباتيبا "حين يموت عجوز كأن مكتبة تحترق" وصنع الله إبراهيم آخر الشخصيات الأدبية الفذة التي كرست كل حياتها لخدمة الوعي العربي وساهمت بقوة الفكر وحساسية اللغة وطرح المواضيع الحارقة هو تلك المكتبة الثرية والغنية والاستثنائية  في إنارة الدروب وتثوير الشعوب.. كان فعليا الشمعة التي تحترق من أجل الآخرين..إلى اللقاء صنع الله ابراهيم ! سيبقى تاريخ 13 أوت 2025 محفورا في القلب كذكرى لاحتفالنا في تونس بعيد المرأة وبذكرى رحيلك المؤلمة..
 أنا التي ظلت مقيدة للبرنامج الدراسي وحاولت قدر الاستطاعة الإحاطة بكتابات من "فُرض" علينا دراستهم إلى أن تكشّفتُ على عوالم الأدب المترجم والذي والحق يقال ساهم في نشره بتونس الكاتب والصديق شوقي العنيزي رفقة الشاعر والمترجم رمزي بالرحومة، أنا التي كانت تنحاز بشدة لنجيب محفوظ وطه حسين وحنا مينه وجبران خليل جبران ومحمود تيمور والبشير خريف ومحمود المسعدي وأراهم كما يراهم الجميع أيقونات لن تتكرر هم بالفعل كذلك إلى أن قادني الأستاذ رياض الفرجاني (أستاذ بالمعهد العالي لفنون الملتميديا بمنوبة) إلى "اللجنة" في تلك الفترة كنت أدرس الإنتاج السينمائي.
كيف يمكن للغتي الصحفية التي "اعتلت" بمنهج البساطة أن تستوعب أسلوب الأديب صنع الله إبراهيم ..لا يمكنني أن أكتفي بقول أن له تلك اللمسة السحرية في صياغة الجمل الرشيقة أو تلك السخرية التي جعلتني أستفيق من سباتي المعرفي الطويل.. تجاوز ذلك بأشواط حين جعل مني امرأة ترى بعينيه الحياة وتتأمل مبادئ اليسار الحقيقية كما جعل في الآن نفسه قلبي يخفق من شدة الحساسية التي يكتب بها لكأنه ينزف نزفا ..هو يكتب بدمه حكايا زماننا المليء بالحمق والرعونة والتجبر .. هو بمنتهى البساطة والعمق من أضحكني وأبكاني مرات عديدة وعديدة.


بين اللجنة والشرف ..كريكاتير المثقف العربي

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو %D8%A7%D9%84%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A9-781x1024.jpg
اللجنة كانت الخفقة الأولى ومنها في ذاكرتي بقيت صورة بطل الرواية والذي كانت الشخصية الأكثر انسحاقا بين الكل وهو ينزل سرواله بطلب من "اللجنة" كي يفوز بوظيفة العمر كما يقال..علينا أن نضع الأمور في نصابها أولا فقد كتبت هذه الرواية بعد تراجع المد القومي العربي كحركة تحرر وطني، وتوقيع اتفاقية السلام فيما بين مصر وإسرائيل والانفتاح الاقتصادي في عهد أنور السادات،  كما أذكر ذلك الحوار الذاتي الذي عبر عن عجز المثقف عن التكيف مع السلطة التابعة للغرب الامبريالي مستخدما أساليب التهجين والتنويع والأسلبة لبيان جرائم الامبريالية والثقافة الأمريكية الزائفة ومخاطر الانفتاح الاقتصادي والشركات المتعددة الجنسية مثل الكوكاكولا بسرد إخباري لهذا التطور الإمبريالي ولسياسة الاحتكار بالعالم الثالث وديمومة التبعية.


 ثم في رواية "شرف" أين دفع صنع الله إبراهيم بالأحداث كما فعل سيزيف بحجره وتحول شرف إلى زانية تبيع جسدها عن طواعية بل وتستلذ، ناقدا في الوقت نفسه المنظومة السجنية التي تحث على الانحلال وتدعم قانون الغاب. فأي عقل جهبذ حملنا إلى عوالم داكنة جدا ومناطق مظلمة وسوداء في الإنسانية كي نواجهها بوعي وصبر، هل تلك هي مهمة الأديب نجزم أنها أنبل مهمة وأصدقها وأكثرها تأثيرا على مر الأيام والأجيال ..

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو %D8%B4%D8%B1%D9%81.jpg

لا يمكن أن أختلف عن الذين خلقتهم من ورق

أما عن شخصية صنع الله إبراهيم في الواقع فهي تشبه الشخصيات التي صاغها على الورق فقد رفض استلام جائزة الملتقى الثاني للرواية عام 2003، وهي جائزة يمنحها المجلس الأعلى للثقافة بمصر، مبررًا ذلك لاتباع دولته سياسات القمع والتطبيع وغياب العدالة الاجتماعية. كما سُجن حوالي خمس سنوات من 1959 إلى 1964 وذلك في سياق حملة شنها جمال عبد الناصر ضد اليسار. وهو أحد الأعضاء المؤسسين لاتحاد الكُتّاب، وشارك في أول اجتماع تأسيسي له عام 1975.
من أشهر روايات صنع الله إبراهيم رواية إلى جانب "اللجنة" و"شرف"  و"نجمة أغسطس” 1974 و"بيروت بيروت" 1984 و"ذات" 1992  و"وردة" 2000" و"أمريكانلي” 2003 و"التلصص" 2007 و"العمامة والقبعة" 2008 و"الجليد" 2011 و"برلين 69" 2014 وغيرها من الإصدارات ..
نحن لن ننسى أن انسانا كان كاتبا بحجم وطن مر في زمننا هذا الذي يشهد انقلابات شديدة الخطورة ومآسي لا تحصى ولا تعد، تنبأ ببعض منها صنع الله إبراهيم لحكمة يحملها في عقله الوقاد.. إلى اللقاء صنع الله إبراهيم.. مكانك بين الحكماء والعظماء!
تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو empty.png
تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو %D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-1024x576.jpg

شاهد أيضاً

الفاضل الجزيري يغادرنا نحو الأبدية

الأيقونة الثقافيةلما بلغنا الخبر بأن الفنان الفاضل الجزيري قد غادرنا، عادت بنا الذاكرة السمعية إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *