منية الكواش – الأيقونة الثقافية
حاز مسلسل “رقوج الكنز” لمخرجه عبد الحميد بوشناق في جزئه الثاني وبالإعتماد على تصويت الجمهور على عديد الجوائز فحصد 11 جائزة من جملة 18 رصدتها الإذاعة الوطنية التونسية في مسابقتها لأفضل الأعمال الدرامية التونسية لشهر رمضان 2025 ففاز مسلسل رقوج 2 بجائزة أفضل عمل درامي تونسي ،التزم بقضايا المرأة ولم يروج لأفكار نمطية ومغلوطة. تحصّل أيضا على جائزة أفضل سيناريو وقد إشترك في كتابته كل من المخرج عبد الحميد بوشناق والممثلين صابر الوسلاتي وعزيز الجبالي كما تحصّل المسلسل كذلك على جائزة أفضل إخراج وفاز بجوائز أخرى كجائزة أحسن ممثل وأحسن ممثلة وجائزة أفضل ملابس .
اعتمد عبد الحميد بوشناق مخرج مسلسل “رقوج الكنز” في تصويره لواقع المرأة الريفية واقعين إثنين، واقع حقيقي وآخر خيالي ،فاستخلص بعض أحداث المسلسل من واقع المرأة المهمّش في رقوج أين دارت أحداث المسلسل (ورقوج هو إسم عكسي لقرية جوقار: قرية ريفية، فلاحية وموجودة بمعتمدية الفحص من ولاية زغوان ). تعرف مثلها مثل بقية المناطق الريفية التونسية بقساوة طبيعتها وبصعوبة العيش فيها. تفتقر إلى مرافق الحياة الكريمة وتشكو من قلة الإمكانيات وشح المياه ومن تأنيث الفقر وتهميش المرأة إقتصاديا وإجتماعيا وتغييبها سياسيا.ثم أضاف المخرج لواقع المرأة الحقيقي واقعا موازيا ، صنعه من خياله وإستنبطه من ثقافته ، وفق قناعاته وحلمه بواقع جديد ينصف المرأة الريفية ويعيد لها إعتبارها.
إستغلال مكرر
تخدمي ؟ ” ما نخدمش ، نجمع في الزيتون” هذا الردّ الصادر من نورة إحدى بطلات المسلسل يبرز أن المرأة الريفية نفسها لا تعترف بأن جنيها للزيتون يعدّ عملا مهنيا لأنها تحمل أفكارا مغلوطة رسخت في ذهنها نتيجة موروث ومخيال ريفي جعل من هذه المغالطات مسلمات ، استبطنتها المرأة الريفية وإنساقت معها في لا وعيها.
أراد المخرج من خلال هذا الردّ أن يلمّح إلى أن أن المرأة الريفية لاتزال تعاني من التهميش والتمييز ولم يدرج عملها ضمن الأعمال الفلاحية المهيكلة والمقننة. بالرغم من أنها تمارس عملا زراعيا وفلاحيا لا يقل جهدا أو وقتا أو مردودية عمل زميلها الرجل لكنها تمنح أجرا أقلّ منه ، يقدر بنصف ما يأخذه . كما تتعرض إلى إستغلال مكرّر، واحد من مالك الأرض وثان من قبل الوسيط ، صاحب الشاحنة الذي يقوم بنقلها للأراضي الفلاحية ويقتسم معها أجرها.

“نا ميتة حية ، ما عاد نستني في شيء ، ماعاد يفرحني شيء” تصف محبوبة إحدى بطلات المسلسل للمتفرج حالتها النفسية وما تشعر به من قهر وظلم وما وصلت إليه من عجز وموت ذهني وإجتماعي جراء ما حلّ بها من تهميش وحرمان نتيجة تراكمات لظروف حياتية قاسية لاحقتها مند ولادتها ، حرمتها من حقها في الصحة وفي الماء وفي التعليم وفي المسكن وغيبتها وحالت دون إرتقائها بنفسها.
إمرأة تبعث البهجة في واقع قاتم
ابتعد المسلسل عن الصورة النمطية المروجة عن المرأة في أغلب المسلسلات العربية فلم يقحم أدوارا لإمرأة مسكينة أو منتقمة ولم يوظّف جسد ها في مشهد من المشاهد وجعلها تشد إنتباه المشاهد بجمالها الطبيعي وحركاتها العفوية وبلباسها البسيط ، البعيد كل البعد عن قواعد التصميم العصري ، كان منسجما مع أسلوب حياتها ومع نشاطها الفلاحي . كما تميّز برسوم الورود والزهور و الألوان الزاهية ، التي حافظت عليها في كل إطلالاتها وفي جميع مناسباتها السعيدة منها والحزينة .
تكرّرت وتعددت لقطات المسلسل التي تظهر البطلتان نسيمة ومحبوبة وهما يتغزلان ببعضهما ويعبران بكل عفوية عن حبهما لبعضهما الذي فاق كلّ أنواع الحب على الأرض وكيف تربعت كل واحدة منهما على قلب الأخرى. كما جعل منهما المخرج فتاتين صادقتين ، مرحتين ، خفيفتين متصالحتين مع نفسيهما ومع بعضهما ،تبعثان البهجة أينما حلتا رغم قساوة الحياة عليهما ، وكأن بالمخرج أراد أن يقول للمتفرج لا تفرط في أحاسيسك الأخوية والإنسانية فهي التي تسمو بك وتصنع معنى لوجودك .
صور المخرج إعتزاز المرأة الريفية بانتمائها إلى منطقتها وتجذّرها في بيئتها رغم صعوبة العيش فيها ، فجعل البطلة نسيمة تضحي بسعادتها الفردية من أجل سعادة مشتركة تتقاسمها مع سكان منطقتها فتقبل بالزواج عن مضض من شخص تمقته وتنفر منه لتصرفاته الدنيئة حتى تحمي مجموعتها ومنطقتها من شره. لم يغفل بوشناق أيضا على عرض مشاهد تبرز طاقة الحب الكامنة في المرأة عموما وفي المرأة الريفية خصوصا جسّدتها في المسلسل منوبية فكانت أمّ الجميع ، الصالح منهم والطالح، لا تستثني من عطفها وحنانها أحدا ، تعمل على حلحلة مشاكلهم فردا فردا ، تأويهم ، تطعمهم ، تنصحهم وتقرّب بينهم.
سمح المخرج للمرأة من خلال دورها التمثيلي والمسرحي بممارسة دور توعوي ففسح لها المجال لتدعو المشاهد من خلال حضورها المقنع ومواقفها الثابتة الى التحرر من الموروث الثقافي ومن المخيال الشعبي ولتشجع المرأة الريفية على المطالبة بآليات تحميها وتضمن كرامتها وبمقاربات تدرجها في كافة عمليات التخطيط و وبرامج التمكين على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
امرأة حرّة ومتحرّرة
“شبيني أنا عبيد حتى أكون على ذمتك.؟” جملة جاءت على لسان نسيمة لما أخبرها خطيبها الديناري بأنها على ذمته وتحت ظله وجناحه ، عبّر بها المخرج عن موقفه من المرأة و قناعاته فالمرأة ليست تابعة في نظره بل تجمعه بها علاقة ندية وأفقية، ساعيا بهذا الموقف إلى تسريب أفكاره للمتفرج وإقناعه بأن المرأة الريفية، قادرة على الخلق والإبداع وعلى المنافسة وعلى إحداث التغييرالاجتماعي والثقافي والإقتصادي والسياسي لو منحت نفس الحقوق والحريات والمناصب والفرص والإمكانيات من أجور قارة وقروض ورؤوس أموال وملكية أراض.

عمد المخرج إلى المزج بين الواقعي الخيالي في تصويره للمسلسل فأحدث نقلة نوعية، عزّز بها العنصر الفرجوي وفاجأ بها المتفرج ، ليكتشف امرأة ريفية في صورة جديدة ، فاعلة ، قيادية، لها حضور ذهني، جاهزة لردّ مفحم ، جريئة ، مقدامة ، تعمل وتكدّ خلال النهار في الحقل ، وتصنع في منزلها التحف من الخزف ثم تبيعها في السوق ، لا ترى مانعا أيضا في العمل ليلا مغنية بالأعراس . لا تخاف لومة لائم ، واثقة من نفسها ، تختلط بعالم الرجال بكل ثبات وكبرياء تواجه ولا تنافق ، تتواصل مع الرجل بأريحية وتقتحم فضاءه وتشاركه مقهاه ، تلتقي بصديقها وتجلس معه في الفضاء العام وتصاحبه في جولات بسيارته الخاصة بعفوية ودون حرج وخوف.
امرأة ريفية تكسر التابوهات
سرح بوشناق مع خياله فصورعلاقة محبوبة ونسيمة بوالدهما علاقة الندّ بالندّ. تجيب نسيمة والدها لما اقترح عليها الزواج من الطبيب “تزوجه أنت”، أراد المخرج أن يكون الردّ مباغتا وصادما ليرسل من خلاله للمتفرج رسالة ضمنية ، مفادها ألّا مجال لهالة القداسة المحيطة بعالم الآباء ولا داعي لطاعتهم طاعة عمياء فهم يخطئون ويصيبون فلا الزمان ولا المكان يسمح بهيمنة أبوية رمزية كانت أم واقعية.
تدرّج مخرج المسلسل في إستعمال الخيال، وطعّم بعض الأحداث بجرعة خيال أكبر، كسر بها التابوهات وطرح من خلالها المسكوت عنه ، فصور طبيبة المستوصف ، بنت المنطقة، تلك التي يعرفها القاصي والداني، تكشف على العلن في الإعلام وعلى شاشة التلفزة عن إسم مغتصبها لتفاجئ والديها وعائلتها وأهل منطقتها بخبر تعرضها للاغتصاب وهي تعرف حق المعرفة أن بوحها بهذه الحادثة ،يعدّ في حدّ ذاته وصمة عار من منطلق معتقدات أهلها ومنطقتها وأنها لن تسلم أبدا من سحلهم ولومهم الجماعي وستظل مذنبة في أعينهم مهما برأت نفسها ومهما أتت ببراهين وأدلّة.

يبدو أن توظيف مخرج مسلسل “رقوج 2” للخيال لم يكن جزافا بل إلتجأ إليه ليخفّف به من قتامة واقع المرأة الريفية وليضفي به على لقطات المسلسل قليلا من الجمال والحيوية والبهجة بغرض إستمالة المتفرج وشدّ إنتباهه ودغدغة مشاعره والتأثير فيه ودفعه للتأمل وإعادة النظر في معتقداته وتفكيره الذكوري ليكتشف بنفسه حجم تعسفه وظلمه للمرأة بصفة عامة وللمرأة الريفية بصفة خاصة فيتغير من تلقاء نفسه ويقطع مع تطبيع وتبرير الإغتصاب والعنف الجنسي والرمزي واللفظي وتقع محاسبة المغتصب ولا يفلت من العقاب ، فالمعروف أن للخيال دورا هاما وقدرة كبيرة على التغيير فقد نعته الفيلسوف سامييال تايلور كولايدج بأنه “شرط أساسي للوصول إلى الحقيقة” وعرفه أينشتاين بأنه أهمّ من المعرفة فالمعروف أن للخيال دورا هاما وقدرة كبيرة على التغيير فقد نعته الفيلسوف سامييال تايلور كولايدج بأنه “شرط أساسي للوصول إلى الحقيقة.” وعرفه أينشتاين بأنه أهمّ من المعرفة، فالمعرفة محدودة والخيال لا حدود له.
يرحل الخيال وتبقى المرأة الريفية تراوح مكانها
يمكن الإقرار بأن المخرج بوشناق نجح في موازنته بين الواقعي والخيالي فقد حقق مسلسل رقوج هدفه وإستقطب مشاهدين من كل الأعمار والفئات والمستويات والمناطق، لفت انتباههم بما ردده على مسامعهم من أقوال كانت رجع صدى لأصواتهم ، وما صوره لهم من نماذج لتصرفات ومواقف إنبهروا بها لأنها كانت جديدة وغريبة عنهم .إكتشفوا في المسلسل طاقات نسائية أثبتت لياقتها الفكرية والفنية وإندمجت مع سياق الأحداث فأقنعتهم ونجحت في تحريك مشاعرهم وإنفعالاتهم وأبدعت بحسها المرهف وروحها الخفيفة وبمضامين رسائلها التي وجهتها لهم دون أدنى مباشرتية فعلقت لقطات من المسلسل بأذهانهم وردّدوها وتقاسموها فيما بينهم ، متفاعلين معها ومستمتعين بها.
فهل فعلا تساءل متفرج مسلسل رقوج 2 وتأمل وتأثر وقرّر أن يغيّر من موقفه ونظرته إزاء ما يلحق المرأة الريفية من ظلم وتهميش أم إنتهي مفعول المسلسل مع إنتهائه فعادت حليمة لعادتها القديمة. وهل من الممكن التعويل على الخيال ليمنحنا حلولا وراحة نفسية وهو سرعان ما يغادرنا ويعود بنا إلى واقعنا. لكن يبقى لنا أملا واحدا يجعلنا نحلم بأن يصبح الخيال واقعا وذلك عندما نؤمن بقانون الجذب فنسلّم ونعتقد بأننا بتفكيرنا وبتركيزنا وبمنحنا مشاعرنا وأحاسيسنا لأمر ما سنجذبه إلينا.