ليلى العوني – الأيقونة الثقافية
طرح المعرض الوطني للكتاب التونسي “أسئلة التجديد في النقد الفكري” بحضور أهم المفكرين في تونس من الذين تعمقوا في الفكر الديني من خلال منطق الفلسفة على غرار الدكتور محمد الكحلاوي، محمد السويلمي، ريم الزياني، مرفت المديني، سمير الزغبي… كان الحضور اليوم الجمعة 10 فيفري 2023 لهذه الندوة الفكرية كبيرا مع بعض خيبة الأمل من غياب الفيلسوف سليم دولة إذ تسمع إسمه همسا هنا وهناك يتسائل عن سبب غيابه لكن مدير المعرض يونس سلطاني أكد تعذر دولة عن الحضور..
ومن بين أهم الأفكار التي طرحت خلال هذا اللقاء هي أن الدين أساسا ظاهرة يصنعها البشر ويسيقونها داخل مجالاتهم وبيئاتهم فليس إسلام الأغنياء كإسلام الفقراء ولا إسلام المتعلمين كما إسلام الأميين ولا إسلام الرجال كما إسلام النساء.
إن الدين هو صنيعة تاريخية وثقافية، يعاد تشكيلها كل مرة في سياقاتها.. وفي هذه الندوة تم التطرّق إلى “الإسلام الرقمي” أي الإسلام الذي يرتبط بالتكنولوجيات الرقمية أو الدين الرقمي عموما كما نظّرت له هايدي كامبل.
ولنكون أكثر دقة في تعريف الإسلام الرقمي فهو ليس الذي يطبق داخل الفضاءات الرقمية ويستعمل التطبيقات الإلكترونية وإنما هذه التطبيقات هي التي غيرت من ملامح الإسلام ومن طرق آدائه وممارسته. المتمكنون من هذه التقنيات يوظفونها لممارسة تدينهم وتبادل هذا الدين لكن لا ننسى أن هذا الدين يغير في هذه التقنيات. الدين ليس موضوعا لهذه التقنيات، إنما هوفاعل فيها. عندما نتحدث عن الإسلام الرقمي لابد أن نتحدث عن فاعلين جدد وعن “سوق دينية جديدة” وعن إستتباعات جديدة. الدين تقليدي كانت تمسك به المؤسسة والدولة والإمام…أما الدين الرقمي فهو دين يشارك فيه الجميع من كل مكان فتغيرت شبكة الفاعلين ومواقعهم وبالضرورة تغيرت رهاناتهم. لذلك فقدت المؤسسات التقليدية سيادتها وإحتكارها لهذا الدين وباختصار لم يعد المفتي هو الذي يصنع المعنى.
“الإسلام الرقمي” هو إسلام عابر للوطنية والفاعلون فيه قادرون على التجييش والتحشيد والتفعيل وصناعة الرموز وصناعة المعنى، نقدم أمثلة على ذلك إتحاد العلماء المسلمين، المركز الأوروبي للإفتاء والبحوث.. كلهم فاعلون ويديرون شبكات إجتماعية ممتدة ومتشعبة بشكل كبير وفي تجربة “داعش” تنظيم الدولة الإسلامية مايدل على ذلك كذلك تجربة حملة مقاطعة البضائع الأجنبية.. فلم يعد المؤمنون ينتمون إلى أقطارهم، صار بإمكان أي فاعل ديني أن يحرك الجماهير على إختلافاتها الثقافية، المجالية، السياسية..
“السوق الدينية” كأي سوق يعرض “بضائع” رمزية من الرقية الشرعية حتى الجهاد المقدس! نلاحظ اليوم أن هذه البضائع تلبي رغبات وإحتياجات نفسية وروحية وإنفعالية ومعرفية ومادية جمّة.
حجم مردودية هذه البضائع هائل جدا وعلى سبيل المثال مداخيل “السوق الدينية الأمريكية” تساوي مداخيل أكبر عشر شركات في الصناعات الرقمية أي أكبر من مداخيل قوقل وتويتر وفايسبوك…مجتمعة.
ومن إستتباعات ذلك “فوضى السوق الدينية” والفتاوى نموذج لهذا.. فنحن لا نعلم من يصنع البضائع ولا كيف يصنعها كذلك تراجع المقدس الروحاني مقابل هيمنة المادي الغريزي والمثال على ذلك سوق الأطعمة الحلال والعطور الحلال واللباس الحلال تحدث بينهم منافسات شرسة وصراعات سياسية هائلة..
ومن إستتباعات هذه الفوضى أيضا “تسييس السوق الدينية” أو الإستقطاب السياسي والمثال على ذلك تنظيم “داعش” الذي كان قادرا على تقديم وتسويق مواد مصورة جهادية وفكرية بجودة بالغة الدقة والحرفية وبمواصفات عالمية عبر المواقع الرقمية فإستطاعت بذلك الخروج من مفهوم الدولة الواقعية إلى مفهوم الدولة الإفتراضية لذلك هم (أي داعش) ينادون بالخلافة الإفتراضية ما يعني أن من لا يستطيع الإلتحاق بالدولة الإسلامية في العراق والشام فهو يستطيع أن يعبر عن ولائه لها من موقعه وبطريقته.
كيف يمكن أن نتحدث عن العلاقة بين الفلسفة بإعتبارها من العلوم المنطقية التي لا تستكين إلى وثوقية وبين الدين بالمفهوم الوثوقي هذا التساؤل قد تم التطرق له ولعله من أهم النقاط في هذه الندوة وقد تم الإستناد في ذلك على موقف “ابن رشد” بإعتباره أول العلماء المسلمين الذي طرح فكرة نقد الخطاب الديني أو الفكر الديني.
لحظة ابن رشد هذه هي لحظة مهمة ومفصلية في التاريخ الإسلامي حيث رفع لواء العقل وإستعمل مصطلح “النقد الديني” لأول مرة في تاريخ المسلمين ولكن هذه اللحظة قد قُبرت وتم إتلاف وإحراق كتبه.
ابن رشد لا يفهم الدين إلا من خلال العقل الذي يحرر الفهم ويطلق العنان إلى بناء المعرفة البرهانية عبر إعمال المنطق بحقيقة الإنسان وبوجوده وبتأويل النص الديني من هنا دعا إلى تأويل عقلاني برهاني للنص القرآني.
هذه اللحظة تلقفها العديد من المفكرين أمثال محمد أركون حتى وصلت إلى العصر الحديث وإلى تونس فكان عبد العزيز الثعالبي أول العلماء المسلمين الذي دعا إلى نقد الخطاب الديني فتمت محاكمته من قبل الشق التقليدي من جامع الزيتونة ليحمل عنه المشعل المفكر الطاهر الحداد في كتابه الشهير “إمرأتنا في الشريعة والمجتمع” حيث طرح موضوع إلغاء تعدد الزوجات وهو في الحقيقة إنطلق من قراءة إجتهادية عقلانية للقرآن ونقد لآليات التشريع في الإسلام.
الفلسفة والدين في علاقة “ولادة” والفرق بينهما في المهنج. لمّا كان المنهج الفلسفي منهجا حجاجيا، كان المنهج الديني يعتمد على القصص والرواية للإجابة، تقريبا، على نفس السؤال حتى لو إختلفت تشعباته ألا هو الإهتمام بالوجود وبالإنسان وماهيته.